من هنا نبدأ ... العدل يغلق القضايا في الأرض ... والحق يظل مفتوحا في ميزان السماء
في ظل الزخم الكبير الذي يشهده العصر الحديث وما جد فيه من سلوكيات وأخلاقيات مستحدثة أثرت
د.م. مدحت يوسف
09 / 12 / 2025
في ظل الزخم الكبير الذي يشهده العصر الحديث وما جد فيه من سلوكيات وأخلاقيات مستحدثة أثرت في نظرة الناس إلى الحقوق وكيفية تحصيلها أصبح فهم العلاقة بين الحق والعدل ضرورة مجتمعية وليست مجرد قضية فلسفية أو فقهية. فقد اختلطت المفاهيم على الكثيرين وتداخلت الحقوق مع المظاهر وتقدمت القدرة على إثبات الدعوى على جوهر الحق أحيانا مما جعل من المهم توضيح الفارق الدقيق بين الحق الذي لا يتغير والعدل الذي يُحكم به في الدنيا وفق ما يظهر للناس.
فالحق هو القيمة الثابتة التي تستند إليها حياة الإنسان وهو ما يثبت لصاحبه في حقيقة الأمر سواء امتلك الدليل أو عجز عن تقديمه. لأن الحق ثابت بحقيقته لا بقدرة صاحبه على كشفه. وهو جوهر لا يتبدل بتغير العقول ولا بتفاوت قدرات الخصوم ولا بضغوط المجتمع. أما العدل فهو الميزان الذي يحتكم إليه الناس في الدنيا وهو السعي المنضبط إلى الوصول إلى أقرب صورة ممكنة من الحق وفق ما يتوافر من أدلة وشهادات وإجراءات تحفظ النظام العام وتمنع الظلم.
وتظهر العلاقة بين الحق والعدل في أن الحق ثابت عند الله لا يتغير بينما العدل هو الاجتهاد الإنساني للوصول إليه بقدر الإمكان. فقد يحمل إنسان الحق في واقعه ولكنه لا يملك بينة وقد يملك آخر القدرة على تقديم مستندات تجعله أقرب إلى الحكم. وهنا يظهر الفرق بين حق قائم في ميزان السماء وحق ظاهر في ميزان القضاء. فالعدل الذي يمارسه البشر عدل ظاهري يقوم على الظاهر أما الحق الذي يعلمه الله فهو الحقيقة المطلقة التي لا يخفى عليه منها شيء.
ويقوم القضاء الذي نثق في نزاهته وحياده على العدل الظاهر الذي يُبنى على ما يتوافر أمام القاضي من بينات. فالقاضي لا يحكم بعلمه ولا بالغيب بل يحكم بما تُظهره الأوراق والشهادات التي قدمها الخصوم. وهذا ليس قصورا بل هو عين الحكمة لأن بذلك تُحفظ المجتمعات من الفوضى وتقوم الحقوق على أساس منضبط. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى حين أوضح أن القاضي قد يحكم لمن ليست له الحقيقة لأن حجته كانت أقوى وأن الحق لا يضيع عند الله.
وهنا تتجلى الحقيقة العظمى التي يحتاجها الناس اليوم وهي أن كل قضية يُقضى فيها في الدنيا بالعدل تُغلق قضائيا ولكن يظل ملفها مفتوحا في ميزان الله حتى يأخذ كل صاحب حق حقه كاملا. فالحكم بالعدل الظاهر لا يعني انتهاء الحق لأن الحق محفوظ عند الله منزه عن الضياع. فالله سبحانه لا يظلم مثقال ذرة ويعلم ما جهلته الأوراق وما غاب عن أعين القضاة وما أخفاه الخصوم.
ويمتد أثر هذا الفهم إلى سلوك الفرد والمجتمع فإذا علم الإنسان أن القضاء يحكم بما ظهر وأن الله يحفظ ما بطن عاش مطمئنا وسلم قلبه من القلق والاضطراب. يقبل حكم القضاء لأنه حكم بالعدل الظاهري ويطمئن إلى أن حقه إن كان مظلوما محفوظ عند الله. كما يتعلم أهمية توثيق الحقوق والابتعاد عن أساليب التحايل وأن يسلك في حياته سلوكا قائما على الإنصاف والاحترام.
والمجتمع الذي يدرك هذه المعاني يعيش توازنا بين عدل الدنيا وعدل الآخرة فلا يتجبر صاحب قوة ولا ينهار صاحب حق ولا يفقد الناس الثقة في القضاء ولا في حكمة الله. فالقضاء يغلق القضايا بميزان العدل الظاهر بينما يظل الحق مفتوحا عند الله حتى يأخذ كل صاحب حق حقه. وهكذا ينهض المجتمع بثقة ويستقر بثبات ويعيش الناس بطمأنينة يعرفون معها أن الحق لا يضيع وأن عدل الله فوق كل عدل في الأرض.
#خطى_الوعي #د_مدحت_يوسف #الأخلاقيات #الهدف #التحدي #مدحت #الحق #العدل #القضاء
@topfans خطى الوعي DrEng Medhat Youssef Moischool Top Fans مجلس القضاء الاعلى
القاهرة 