دراسة تحليلية في الضوابط الجنائية والإجرائية لتقييد النشر الإعلامي
تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام ونقل الحقائق وتعزيز الرقابة المجتمعية،
كتب محمد عطية
إعداد: الباحثة شيماء عيد عبدالعليم علي بدر (شيماء بدر)
باحثة دراسات عليا – قسم القانون العام – جامعة المنصورة
2025 / 2026
المقدمة
تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام ونقل الحقائق وتعزيز الرقابة المجتمعية، مما يجعلها إحدى الركائز الأساسية للدولة الديمقراطية الحديثة. وفي المقابل، يظل القضاء هو الحصن الأخير للعدالة، وهو سلطة مستقلة لا يجوز التأثير على مجريات عملها أو نتائجها بأي أداة خارجية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو إعلامية. وتبرز الإشكالية حين تتناول وسائل الإعلام قضايا جنائية ما زالت قيد التحقيق أو في طور المحاكمة، الأمر الذي قد يؤدي إلى مساس بضمانات المتهم وخلق صورة ذهنية تُدين قبل صدور الحكم، كما قد يؤدي إلى ممارسة ضغوط على القضاة أو التأثير على الشهود، بما يخلّ بحياد المحكمة وسير العدالة.
ولحماية هذه الضمانات، تتدخل التشريعات بوضع ضوابط إجرائية مثل سرية التحقيق، وضوابط جنائية مثل تجريم نشر أخبار التحقيق أو التأثير على القضاء، بهدف ضبط التوازن بين حرية الإعلام وضرورة حماية سير العدالة. وتقوم النصوص الدستورية المصرية على تكريس هذا التوازن، من خلال مواد حرية الرأي والصحافة (65، 68، 70، 71)، إلى جانب النصوص الضامنة لقرينة البراءة واستقلال القضاء (96، 184).
وتنبع أهمية هذا البحث من تناوله الإشكالية الدقيقة بين حرية الصحافة بوصفها سلطة رقابية، وبين ضمانات المحاكمة العادلة كضرورة أساسية لحماية الحقوق والحريات. كما يسعى البحث لتحديد الموازنة القانونية التي تحقق حماية العدالة دون المساس بالحق في المعرفة.
الهدف من البحث
يهدف هذا البحث إلى تحليل الأسس الدستورية والقانونية التي تنظم العلاقة بين الإعلام والقضاء، وبيان الضوابط الإجرائية والجنائية التي تفرضها التشريعات لضمان عدم تأثير النشر الإعلامي سلباً على سير العدالة، مع دراسة النماذج التطبيقية التي تُبرز خطورة المحاكمة الإعلامية، وتقديم توصيات تساعد على تحقيق التوازن بين حرية التعبير وحماية القضاء.
المبحث الأول: التأصيل القانوني للقيود الإجرائية على حق الإعلام
سرية التحقيق كقاعدة دستورية
تُعد سرية التحقيق ضمانة محورية لتحقيق العدالة، إذ تمنع نشر تفاصيل القضايا في مراحلها الأولى حفاظاً على حقوق المتهمين والشهود وسلامة الأدلة. ويستند هذا المبدأ إلى قرينة البراءة (المادة 96 من الدستور)، وإلى ما قرره قانون الإجراءات الجنائية في المواد 75 و310 و189. وتهدف السرية إلى منع خلق رأي عام ضاغط قبل اكتمال الأدلة، ومنع التأثير على الشهود، وحماية التحقيق من التضليل الإعلامي أو إفساد الأدلة.
حظر النشر كآلية وقائية
يُعد قرار حظر النشر إجراءً وقائياً تتخذه النيابة العامة أو المحكمة لحماية سير التحقيقات في القضايا الحساسة أو المثيرة للرأي العام. ويسهم حظر النشر في حماية المتهم من التشهير، ومنع تداول معلومات مغلوطة قد تضلل المجتمع أو تؤثر على سير العدالة. ويستند هذا النظام إلى المادة 71 من الدستور وقانون تنظيم الإعلام رقم 180 لسنة 2018، إلى جانب النصوص الجنائية التي تعاقب على نشر أخبار التحقيق أو التأثير على القضاء.
المبحث الثاني: الضوابط الجنائية في مواجهة المحاكمة الإعلامية
تجريم المساس باستقلال القضاء
تدخل قانون العقوبات لتجريم الأفعال الإعلامية التي تؤثر على القضاء أو تشوّه سمعته، مثل القذف والتشهير المنشور عبر الوسائل الإعلامية. وتنظم المواد 302 و303 و306 و309 مكرر هذه الجرائم، إلى جانب المادة 184 التي تجرّم إهانة المحاكم أو التأثير على أحكامها. وتتشابه هذه الضوابط مع مبدأ "ازدراء المحكمة" المعروف في القانون الإنجليزي، والذي يجرّم أي سلوك يمس سلطة القضاء أو يعرقل سير العدالة.
الأثر القانوني للرأي العام على الحكم القضائي
تظهر خطورة المحاكمة الإعلامية حين يتحول الرأي العام إلى عامل ضغط على القاضي أو الشهود، بما قد يؤدي إلى بطلان المحاكمة لانتفاء الحياد، وفقًا للمادة 96 من الدستور. كما يؤدي الإفراط في تناول القضايا إعلاميًا إلى فقدان المجتمع الثقة في القضاء، حتى لو كانت الأحكام صحيحة قانونياً، مما يهدد مبدأ استقلال السلطة القضائية.
دراسة حالة تطبيقية: قضية Sam Sheppard
تمثل قضية Sam Sheppard الأمريكية أحد أبرز الأمثلة التاريخية على تأثير التغطية الإعلامية في فساد المحاكمة. فقد حظيت القضية بتغطية إعلامية مكثفة عام 1954، ورافق جلسات المحاكمة حضور إعلامي غير مسبوق داخل القاعة، ما أثر على حياد هيئة المحلفين. وفي عام 1966، قضت المحكمة العليا الأمريكية بإلغاء الحكم بسبب الأجواء الإعلامية التي أفسدت العدالة، وأعيدت المحاكمة التي انتهت بالبراءة. وتؤكد هذه القضية أهمية حماية المحاكمات من الضوضاء الإعلامية، وضرورة وضع ضوابط صارمة لضمان الحياد.
الخاتمة
تُظهر الدراسة أن الضوابط الجنائية والإجرائية ليست تقييدًا لحرية الصحافة بقدر ما هي ضمانة لتحقيق العدالة الجنائية. كما يتضح أن التوازن بين الإعلام والقضاء ضرورة لحماية المجتمع، وهي مسؤولية مشتركة بين المشرّع والقضاء والمؤسسات الإعلامية.
أهم النتائج
سرية التحقيق وحظر النشر آليات دستورية تهدف لحماية قرينة البراءة وحماية العدالة.
القوانين الجنائية الخاصة بالقذف والتشهير والتأثير على القضاء تمثل خط الدفاع الثاني لحماية استقلال القضاء.
المحاكمة الإعلامية قد تؤدي إلى بطلان المحاكمة وفقدان الثقة في النظام القضائي.
التوصيات
وضع معايير دقيقة لإصدار قرارات حظر النشر، وتجنب الإفراط في استخدامها.
إصدار بيانات رسمية عند الضرورة للحد من انتشار الأخبار المضللة.
تدريب الإعلاميين على قواعد النشر في القضايا الجنائية.
سن تشريع خاص يجرّم التأثير الإعلامي على سير العدالة.
تعزيز مدونات السلوك الإعلامي، ومنع الإدانة المسبقة للمتهمين.
قائمة المراجع
دستور جمهورية مصر العربية - قانون الإجراءات الجنائية - قانون العقوبات - قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018 - د/أكمل يوسف السعيد، "الضوابط الجنائية في التناول الإعلامي للشأن القضائي"، مجلة الحقوق – جامعة الإسكندرية، 2017 - المراجع المقارنة الخاصة بمفهوم Contempt of Court والقضايا ذات الصلة بالمحاكمة الإعلامية.
القاهرة 