التحول الحقيقي لا يبدأ بالتقنية… بل بوضوح الرؤية وتكامل الاستراتيجيات
مدير عام التحول الرقمي بديوان عام محافظة كفر الشيخ

بقلم: د. أحمد الأشقر
مدير عام التحول الرقمي بديوان عام محافظة كفر الشيخ
في زمن يموج بالضوضاء التقنية، وغزو مفاهيم مثل "الذكاء الاصطناعي"، و"البلوك تشين"، و"التحول الرقمي" لكل مجال، يسهل علينا أن نقع في فخ الاعتقاد بأن امتلاك أحدث التقنيات هو الطريق المُلَكي نحو التميز والتحول. ننفق الملايين على الأنظمة والبرمجيات والأجهزة، متوهمين أننا بشراء هذه الحلول قد حققنا نقلة نوعية. ولكن الحقيقة المرة التي تواجه العديد من المؤسسات والحكومات هي: التحول الحقيقي لا يبدأ بلمعان التقنية، بل ينبع من صفاء الرؤية وتكامل الاستراتيجيات.
لو كانت التقنية وحدها كافية، لكانت كل الشركات التي اشترت أغلى أنظمة "ERP" قد أصبحت الأكثر كفاءة، وكل الحكومة التي أدخلت الخدمات الإلكترونية قد حققت أعلى معدلات الرضا. لكننا نرى فشلاً هنا وهناك، ونشاهد مشاريع تحول تتحول إلى أعباء مالية وإدارية. لماذا؟ لأننا نضع العربة أمام الحصان.
أولاً: وضوح الرؤية.. البوصلة التي تسبق السفينة
قبل أن نشتري أي قطعة تقنية، يجب أن نجيب على أسئلة جوهرية: لماذا نتحول؟ وأين نريد أن نصل؟ وما هي القيمة التي نسعى لخلقها؟
الرؤية الواضحة هي التي تحدد الوجهة. هل هدفنا تحسين تجربة العميل؟ أم رفع كفاءة العمليات الداخلية؟ أم إطلاق نموذج عمل جديد؟ بدون إجابة واضحة، تصبح التقنية مجرد أداة بلا غاية، تستهلك الموارد دون أن تقدم قيمة حقيقية. الرؤية هي التي تحدد معايير اختيار التقنية، وليس العكس. هي التي تجعل الموظفين والمتعاملين يفهمون "السبب" وراء هذا التغيير، فيتحولون من مقاومين له إلى شركاء فيه.
ثانياً: تكامل الاستراتيجيات.. النسيج الذي يحول الفكرة إلى واقع
الرؤية وحدها لا تكفي. فالتحول كائن معقد لا يعيش في فراغ. هنا يأتي دور تكامل الاستراتيجيات، وهو العمود الفقري لأي تحول ناجح. ماذا يعني هذا؟
1. الاستراتيجية البشرية والثقافية: أي تحول تقني هو في جوهره تحول ثقافي وسلوكي. يجب أن تكون هناك استراتيجية لتمكين الموظفين، وتدريبهم، وإشراكهم، وتغيير ثقافة المؤسسة من الخوف من التغيير إلى الشغف بالابتكار. تقنية بدون ثقافة داعمة هي مثل زرع بذرة في تربة مالحة.
2. استراتيجية العمليات والأعمال: يجب إعادة هندسة العمليات لتتوافق مع إمكانات التقنية الجديدة. تطبيق تقنية حديثة على عمليات قديمة ومعقدة هو مجرد "أتمتة للفوضى". النجاح يكمن في تبسيط العمليات أولاً، ثم أتمتتها.
3. استراتيجية التنظيم والحوكمة: هيكل المؤسسة التقليدي قد لا يتوافق مع متطلبات العصر الرقمي. لا بد من استراتيجية تنظيمية مرنة تشجع على التكامل والتعاون بين الإدارات بدلاً من العمل بأسلوب "الصوامع" المنعزلة.
4. استراتيجية البيانات والمعلومات: في عصر الاقتصاد القائم على المعرفة، يجب أن تكون البيانات هي الوقود الذي يغذي التحول. استراتيجية واضحة لجمع البيانات، وتحليلها، وتحويلها إلى رؤى قابلة للتنفيذ هي ما يعطي التقنية دماغها وقيمتها الحقيقية.
الخلاصة: التقنية أداة عبقرية.. لكنها ليست الاستراتيجية نفسها
لا يمكن إنكار أن التقنية هي المُحَفِّز والمُمَكِّن الأقوى للتحول في عصرنا. فهي تفتح آفاقاً لم تكن في الحسبان. لكن علينا أن نتذكر دائماً أنها وسيلة وليست غاية.
التحول الحقيقي والمستدام هو ذلك الذي يبدأ برؤية ملهمة وواضحة، ثم ينسج حولها مجموعة من الاستراتيجيات المتكاملة (البشرية، التشغيلية، التنظيمية) لتحقيق هذه الرؤية. عندها فقط، تأتي التقنية لتمثل الذراع القوية التي تنفذ هذه الاستراتيجيات ببراعة، محولةً الطموح إلى إنجاز ملموس.
فلنبدأ دائماً بالسؤال: "لماذا؟" قبل أن نسأل "كيف؟"، و"إلى أين؟" قبل أن نسأل "بماذا؟". حينها فقط، سنبني تحولاً حقيقياً يجعل التقنية خادماً لرؤيتنا، لا سيداً عليها.