من هنا نبدأ …عندما تتحول الأعمال الخيرية إلى أداة ضغط انتخابي سقوط الخطاب الاستعطافي في ميزان المسؤولية الوطنية
تشهد بعض المشاهد الانتخابية في الآونة الأخيرة سلوكيات مقلقة لا تليق بطبيعة العمل النيابي
د.م. مدحت يوسف
8 ديسمبر 2025
تشهد بعض المشاهد الانتخابية في الآونة الأخيرة سلوكيات مقلقة لا تليق بطبيعة العمل النيابي ولا بكرامة المنصب الذي يُفترض أن يكون أحد أعمدة الدولة التشريعية والرقابية. لم يعد الأمر يقتصر على المال السياسي الذي حذرت منه القوانين واللوائح منذ زمن بل تعدّاه إلى مشهد أشد خطورة يتمثل في خطاب الاستعطاف والتوسل واستدرار العطف وتحويل الحاجة والفقر إلى أدوات ضغط على الناخبين. إن هذا السلوك لا يسيء فقط للعملية الانتخابية بل يسيء في المقام الأول إلى قيمة المسؤولية العامة ويُفرغ المنافسة من مضمونها الأخلاقي والوطني.
إن العمل النيابي ليس موضع شفقة ولا ساحة للتوسل ولا مساحة للمساومة العاطفية وإنما هو تكليف ثقيل وأمانة وطنية تستند إلى الكفاءة والنزاهة والرؤية والبرنامج الواضح. وعندما يقف مرشح ليقول للناس انتخبوني وسأفعل لكم كذا وكذا مستخدمًا لغة الاستجداء والوعود المفتوحة فإن ذلك لا يعكس قوة ولا أهلية بل يعكس غياب الرؤية واستسهال الطريق عبر استغلال المشاعر ومعاناة البسطاء.
ومن الضروري هنا التمييز بوضوح بين من ينفقون أموالهم في وجوه الخير بإخلاص ودون ضجيج ودون انتظار مقابل سياسي أو انتخابي، وبين من يجعلون من المال ستارًا إنسانيًا زائفًا لأغراض شخصية. فالأعمال الخيرية الحقيقية لا تُمارَس في مواسم الانتخابات ولا تُصوَّر بالكاميرات ولا تُربَط بالتصويت ولا تُقايَض بالأصوات. أما أولئك الذين يُغدقون الأموال قبيل الانتخابات ويغرقون القرى والمناطق الفقيرة بالمساعدات المشروطة والوعود المغلّفة بالعاطفة فهم في حقيقة الأمر لا يتاجرون بالخير بل يتاجرون بالبشر ويُحوِّلون معاناة المحتاجين إلى وسيلة صعود. والأشد خطورة منهم من يَعِد الغلابة والمساكين بتغيير حياتهم وبالإغداق عليهم من أمواله بعد نجاحه وكأن كرامتهم مؤجلة إلى ما بعد الصندوق وكأن الحقوق مرهونة بمنصب أو كرسي. هؤلاء لا يقدمون خيرًا بل يصنعون تبعية ويغرسون وهمًا ويُرسِّخون ثقافة الاستغلال بدلًا من ثقافة التمكين.
إن خطورة هذا السلوك لا تتوقف عند حدود الفرد وإنما تمتد إلى بنية المجتمع بأكمله. فهو يهدم منظومة القيم ويفسد معنى المواطنة ويجعل الصوت الانتخابي سلعة تُباع وتُشترى بدل أن يكون حقًا وواجبًا يُمارَس بوعي ومسؤولية. كما أنه يُسهم في إفراز نماذج ضعيفة تفتقر إلى الكفاءة والمعرفة التشريعية والقدرة على الرقابة وصناعة القرار وهو ما ينعكس سلبًا على أداء المجلس وعلى مصالح الوطن والمواطنين.
إن النائب الحقيقي لا يُقاس بكمية ما ينفقه ولا بعدد الولائم ولا بحجم صوته في الشوارع والمساجد والميادين بل يُقاس بما يملكه من فكر وما يحمله من حلول وما يقدمه من رؤية إصلاحية قابلة للتنفيذ. الناخب الواعي لا ينتظر دمعة ولا وعدًا عاطفيًا ولا توسلاً بل يبحث عن برنامج واضح وأهداف محددة وآليات عمل تضمن له أن يكون صوته أداة بناء لا وسيلة استغلال.
ومن هنا فإن المنافسة الشريفة تقوم على الاحترام أولًا احترام الذات واحترام المواطن واحترام القانون واحترام قدسية المنصب. تقوم على الحوار العقلاني وعرض الأفكار ومصارحة الناس بالواقع لا بيع الأوهام والمتاجرة بالآلام. كما أن مسؤولية المجتمع اليوم أكبر من أي وقت مضى إذ يجب أن يرفض هذه الممارسات وأن يرتقي بوعيه وأن يُدرك أن من يهين نفسه اليوم أمام الناخب لن يحفظ كرامة ناخبيه غدًا تحت قبة البرلمان.
إن العلاج الحقيقي لهذه الظاهرة يبدأ من وعي الناخب وإدراكه لقيمة صوته ومن إعلاء شأن البرنامج الانتخابي على حساب الشعارات الزائفة ومن محاسبة المرشح على ما يقول وما يفعل لا على ما يبكيه أو يتوسل به. فالمناصب لا تُنال بالضعف ولا بالتجارة في آلام الفقراء بل بالكفاءة والصدق والنزاهة والعمل الدؤوب.
وختامًا ندعو الله أن يولي من يُصلح وأن يُصلح من تولى وأن يحفظ أوطاننا من كل سلوك يعبث بكرامة الإنسان ويشوّه معنى الديمقراطية ويحوّلها من رسالة إلى صفقة. فليكن صوت الناخب أمانة وليكن الترشح مسؤولية وليكن مجلس النواب ساحة شرف لا ساحة استعطاف. فالأوطان لا تُبنى بالدموع بل تُبنى بالإرادة والعلم والعدل والصدق.
#خطى_الوعي #د_مدحت_يوسف #الأخلاقيات #النجاح #الهدف #التحدي #مدحت
خطى الوعي DrEng Medhat Youssef Moischool Top Fans
القاهرة 