جرائم الابتزاز الالكتروني العابر للحدود والتحديات القانونية في إثبات الجريمة وتتبع الجناة دولياً

جرائم الابتزاز الالكتروني العابر للحدود والتحديات القانونية في إثبات الجريمة وتتبع الجناة دولياً

بقلم المستشار الدكتور/ محمد ليمونة

دكتور القانون التجاري الدولي 

جرائم الابتزاز الإلكتروني العابر للحدود تمثل أحد أكبر التحديات القانونية التي تواجه الأنظمة الجنائية المعاصرة فقد أصبح الفضاء الرقمي ساحة مفتوحة لارتكاب أفعال تهدد الأمن العام والخاص في وقت واحد دون اعتبار للحدود الجغرافية أو السيادة الوطنية فالجاني قد يكون في دولة والضحية في أخرى بينما تمر البيانات عبر خوادم موزعة في عدة قارات وهذا الواقع يجعل إثبات الجريمة وتتبع مرتكبيها عملية شديدة التعقيد تتطلب تضافر الجهود القانونية والتقنية والدولية على حد سواء

الابتزاز الإلكتروني هو استخدام وسائل الاتصال الرقمية لتهديد شخص بكشف معلومات خاصة أو نشر صور أو بيانات حساسة أو تعطيل أنظمة معلوماتية ما لم يستجب لمطالب محددة غالباً مالية وقد يتخذ هذا الابتزاز أشكالاً متعددة مثل رسائل البريد المجهولة أو البرمجيات الخبيثة التي تشفر بيانات الأجهزة أو اختراق الحسابات ونشر محتوياتها وتكمن خطورة هذه الجريمة في أنها تمزج بين عدة أوصاف جنائية كالتهديد والاحتيال والاعتداء على الخصوصية في آن واحد مما يجعل تكييفها القانوني أحياناً متبايناً بين الدول

أصعب ما يواجه جهات التحقيق في هذه القضايا هو إثبات الفعل المنسوب للجاني فالأدلة الرقمية بطبيعتها سريعة الزوال وقابلة للتعديل أو الحذف كما أن تعقب مصدر الرسائل أو البيانات يواجه مشكلة النسبة الحقيقية حيث يستخدم الجناة شبكات إخفاء الهوية وخدمات البروكسي وعناوين إنترنت ديناميكية تزيد من صعوبة تحديد الفاعل الحقيقي وحتى عند تحديد خادم معين قد يكون مستأجراً من طرف ثالث أو يقع في دولة لا تتعاون قضائياً مع الدولة التي وقع فيها الضرر

إضافة إلى ذلك فإن البيانات قد تكون مخزنة على خوادم سحابية في ولايات قضائية مختلفة وهو ما يستلزم الحصول على أوامر قانونية من تلك الدول وقد ترفض بعض السلطات الطلبات أو تتأخر في الرد مما يفقد الأدلة قيمتها كما أن التشفير القوي الذي توفره بعض التطبيقات يحول دون الاطلاع على مضمون المراسلات حتى في حالة صدور أمر قضائي فضلاً عن أن قوانين حماية البيانات الشخصية في بعض الدول تحد من قدرة جهات التحقيق على جمع المعلومات

من الناحية الإجرائية تبرز مشكلة تعدد الاختصاصات القضائية فالجريمة الواحدة قد ترتبط بثلاث أو أربع دول وكل منها تطبق قواعد مختلفة في تحديد الولاية القضائية وقد ترفض دولة ما التعاون إذا لم يكن الفعل مجرماً في قوانينها بنفس الوصف القانوني وهذه الفجوات التشريعية تجعل من الضروري تحديث القوانين الوطنية لتجريم الابتزاز الإلكتروني بصورته الحديثة

التعاون الدولي يمثل ركيزة أساسية لمواجهة هذا النوع من الجرائم فقد جاءت اتفاقية بودابست بشأن الجريمة الإلكترونية لتضع إطاراً موحداً للتجريم والإجراءات ولتنشئ آليات تبادل المعلومات العاجلة مثل شبكات الاتصال على مدار الساعة كما أن آليات المساعدة القانونية المتبادلة بين الدول رغم بطئها لا تزال قناة رسمية مهمة للحصول على الأدلة من الخارج ويأتي دور الإنتربول ليكمل هذا الجهد من خلال إصدار النشرات الحمراء وتنسيق فرق التحقيق المشتركة بين الدول

ولا يقل دور القطاع الخاص أهمية عن دور السلطات الرسمية فمزودو خدمات الإنترنت وشركات التواصل الاجتماعي يحتفظون بسجلات الدخول والاتصال التي تمثل أدلة جوهرية على مسار الجريمة ومرتكبيها ولذا ينبغي أن تلزم التشريعات هذه الجهات بإنشاء وحدات استجابة قانونية للتعامل السريع مع طلبات السلطات مع ضمان التوازن بين متطلبات التحقيق وحماية خصوصية المستخدمين

ولمواجهة هذه التحديات يجب تحديث التشريعات الوطنية لتشمل نصوصاً واضحة عن الابتزاز الإلكتروني والإجراءات الخاصة بالأدلة الرقمية وتدريب القضاة وأعضاء النيابة وضباط التحقيق على التقنيات الحديثة وأدوات التحليل الجنائي الرقمي كما ينبغي تسريع إجراءات التعاون الدولي عبر اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف وتطوير آليات حفظ البيانات بشكل عاجل قبل محوها واستخدام الأدوات التقنية المتقدمة في التتبع ضمن إطار قانوني يحترم الحقوق الأساسية

وفي النهاية فإن جرائم الابتزاز الإلكتروني العابرة للحدود لن تختفي ما لم تتوافر منظومة متكاملة تمزج بين قوة النصوص القانونية وكفاءة الإجراءات وسرعة التعاون الدولي ودور القطاع الخاص وتحقق التوازن بين فعالية مكافحة الجريمة وحماية الحريات الفردية إذ إن التراخي في هذا الميدان يمنح المجرمين مزيداً من المساحة للتحرك بعيداً عن يد العدالة