مزامير القرآن ودولة التلاوة

فيصل خزيم العنزى
حين وصف النبي ﷺ صوت الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري .. قال له :
“ لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير آل داوود ”.
فمنذ ذلك الحين صار للصوت الحسن مع كتاب الله منزلة .. وصارت التلاوة الخاشعة باباً من أبواب الإيمان ومفتاحاً من مفاتيح الخشوع بل طريقاً لِعِشْقٍ لا يُدركه إلا من استمع للقرآن بقلبه لا بأذنه !!
وهكذا حين نسمع أصوات أولئك القراء المصريين ندرك تماماً معنى “ مزامير القرآن ” .. أصوات إذا انطلقت توقفت الدنيا واهتزّت الأرواح كأن السماء تتكلّم على لسان بشر ..
هم لم يقرأوا فقط بل تفتّحت قلوبهم لآيات الله فنطقوا بها كما تنطق النجوم في عتمة الليل !!
دولة التلاوة وزعماؤها :
في أرضٍ باركها الله بنهرٍ يتلوى كآية وسماءٍ تحفظ أسرار التلاوة .. نشأت دولة لم تُسجَّل في خرائط الجغرافيا بل خُطَّت في خرائط الأرواح .. إنها دولة التلاوة المصرية
حيث الأصوات ليست مجرد حناجر بل مزامير سماوية تهبط على قلوب الناس كما ينزل المطر على الأرض العطشى !!
قالوا : “ نزل القرآن في مكة وطُبع في تركيا وقُرئ في مصر ” وليس في القول مبالغة بل شهادة للتاريخ فمن مصر خرج القرّاء الذين تعلّق بهم السمع والعين والقلب
منذ بدايات البث الإذاعي وحتى يومنا هذا ..
بداية النور
صوت الفتح :
في صباح 31 مايو 1934 .. أُطلقت الإذاعة المصرية وكان أول صوت يُبَثّ عبر أثيرها هو صوت القارئ العَلَم الشيخ محمد رفعت يتلو بخشوع قوله تعالى :
{ إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا }
لم يكن ذلك الافتتاح حدثاً عادياً بل كان تأسيساً لدولة ستُصبح مهداً لتلاوة القرآن وموطناً لصوتٍ لا يُشبه إلا النور .
عمالقة التلاوة
حين نطق القلب :
في شوارع الحواري وفي طابور المدارس وفي أروقة المساجد كبرنا على أصوات الحصري والمنشاوي وعبدالباسط والطبلاوي والبنا وشعيشع كانوا أبطال طفولتنا الروحية ومفاتيح أول خشوع !!
الشيخ محمود خليل الحصري : صوت الصباح في الإذاعات والمعلّم الأول في التجويد نقيٌّ كالوضوء ودقيق كميزان الذهب !!
الشيخ عبدالباسط عبدالصمد : صاحب الصوت الذهبي الذي اختزل الحلاوة والهيبة في نَفَسٍ واحد لا تزال تلاوته تهز القلوب في مشارق الأرض ومغاربها !!
الشيخ محمد صديق المنشاوي : القارئ الذي بكى بالقرآن وأبكى به حتى قيل عنه : يقرأ بقلبه لا بصوته !!
الشيخ مصطفى إسماعيل : فارس المقامات ومحبوب الزعماء الذي جعل لكل آية مقاماً ولكل مقام رسالة !!
الشيخ محمد البنا ذلك الصوت الحزين العذب الذي يتسلّل إلى أعماق الروح دون استئذان !!
ولا تكتمل الصورة دون ذكر الشيخ أبو العينين شعيشع : أحد أعمدة دولة التلاوة وصاحب الحنجرة الذهبية الذي كان أول قارئ مصري يتلو آيات الله في المسجد الأقصى المبارك في لحظة اجتمعت فيها بركة المكان وجلال الصوت لتصنع ذكرى لا تُنسى !!
التلاوة التي لا تموت
ما سرُّ هؤلاء ؟
إنهم لم يكونوا قرّاء فحسب بل عاشوا القرآن وتجلّى في أصواتهم قراءاتهم لم تكن أداءً بل حالة .. كانوا يُعطون كل حرف حقّه وكل نَفَس روحه حتى شعر الناس أن القرآن يُتلى لأول مرة في كل مرة !!
وهكذا بقيت تلاواتهم خالدة لا تبهت ولا يعلوها غبار الزمان تتوارثها الأجيال وتُعاد مرات ومرات دون أن تفقد رونقها أو قدسيتها !!
أخيراً :
هي مصر دولة التلاوة ومملكة الأصوات الخاشعة ومنبع المزامير السماوية ..
رحم الله أولئك الزعماء
الذين شدَوا بألحان السماء
ففتح الله لهم القلوب
كما فُتحت السماء لكلمات الله .