من هنا نبدأ..معركة الوعي وسلاح الفكر في حماية الأوطان
إنها معركة العصر الحديث، المعركة التي لا تُخاض بالسلاح ولا تُدار في ميادين القتال،
✍️ بقلم: د.م. مدحت يوسف
? التاريخ: ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٥م
إنها معركة العصر الحديث، المعركة التي لا تُخاض بالسلاح ولا تُدار في ميادين القتال، بل في ميادين العقول والقلوب، في الفكر والإدراك؛ إنها معركة الوعي. المعركة التي يشارك فيها الجميع دون استثناء، كلٌّ فيها مقاتل: منهم من يبني ويحصّن، ومنهم من يهدم — عن قصد أو عن جهل — أسس الوعي ويزعزع الثوابت والمبادئ.
لقد تفجّرت المعلومات من كل صوب، وتشابك فيها الحق بالباطل، والعلم بالجهل، والحقيقة بالوهم، حتى أصبحت العقول ساحات مفتوحة تتصارع فيها التيارات الفكرية والمفاهيم المتناقضة. وفي وسط هذا الضجيج الهائل، لم يعد السلاح المادي هو ما يحمي الأوطان، بل سلاح الوعي والفكر المستنير هو الدرع الأقوى الذي يصون العقول من الاختراق ويحمي المجتمعات من التشتت والانهيار.
لقد تغيّرت طبيعة الخطر؛ فبعد أن كان الإنسان يحتمي من اللصوص والقتلة خلف الأبواب الموصدة، أصبح اليوم يحمل الخطر في يده! أجهزة رقمية تدخل البيوت بلا استئذان، تتسلل إلى العقول في غفلة، وتعيد تشكيل القناعات والمفاهيم من الداخل. تلك الأجهزة التي وهبتنا العالم بين أيدينا، قد تحولت في أحيان كثيرة إلى قيدٍ يسلبنا وعينا، وسلاحٍ رقمي يخترق فكرنا وقيمنا دون أن نشعر.
ولستُ ضد الثورة الرقمية الحديثة، فهي منجزٌ حضاري لا يمكن إنكاره، بل هي أحد أعظم أدوات التطور والتقدم الإنساني، ولكن — وهنا تكمن الخطورة — إذا لم تُحكم وتُدار بعقل راشد ورقابة واعية، فإنها تتحول إلى فوضى فكرية وتيارٍ جارفٍ يهدد ثوابت المجتمع وهويته الوطنية. لذلك، لابد من حوكمة الثورة الرقمية لتصبح طاقة بناء لا معول هدم.
إن أخطر اللصوص في عصرنا ليسوا أولئك الذين يسرقون الأموال والممتلكات، بل الذين يسرقون العقول ويزرعون فيها الشك والانقسام. هؤلاء يختبئون خلف المحتوى الزائف، يقدّمون السم في قالب ترفيهي جذّاب، ويستهدفون الشباب بفكرٍ مشوّه يضعف انتماءهم ويهز ثقتهم بهويتهم وأوطانهم.
لقد امتدت آثار هذه الفوضى الرقمية إلى مختلف نواحي الحياة: فحوادث النصب والاحتيال باتت رقمية، والانحرافات السلوكية مصدرها فضاءات التواصل المفتوحة، بل إن كثيراً من حوادث السير ناتجة عن الانشغال بالشاشات. وما كان يوماً أزمة تقنية، أصبح اليوم أزمة وعي وأخلاق ومسؤولية مجتمعية.
ومن هنا، فإن مواجهة هذه المعركة لا تكون بحلول فردية، بل بخطة وطنية متكاملة تُسهم فيها جميع مؤسسات المجتمع. على الأسرة أن تكون الحصن الأول، وعلى المدرسة أن تزرع التفكير النقدي والوعي الرقمي في مناهجها، وعلى الإعلام أن يتحمّل مسؤوليته في نشر محتوى رشيد يوجّه ولا يضلل، وعلى المؤسسات الحكومية والخاصة أن تتعاون في وضع سياسات صارمة للوقاية والرصد والتوعية، وعلى منابر الدين والثقافة أن تُعيد ترسيخ القيم والانتماء.
إن حماية الأوطان لم تعد فقط مسؤولية الجندي المرابط على الحدود، بل هي مسؤولية كل مواطن، ومعلم، وإعلامي، ومثقف، وأب، وأم. فالهزيمة الفكرية أخطر من الهزيمة العسكرية، وسقوط الوعي مقدمة لسقوط الكيان.
ولكي ننتصر في معركة الوعي، نحتاج إلى ثورة ثقافية منظمة، تُعيد تعريف الانتماء، وتغرس القيم، وتحوّل ساحات الإعلام الرقمي إلى ميادين للبناء والإبداع. لا يكفي التحذير من المخاطر، بل لا بد من العمل: تعليم مهارات التفكير النقدي في المدارس، إعداد برامج توعوية للأسر، تشريع قوانين رادعة للجرائم الرقمية، دعم المحتوى الوطني الموثوق، وتدريب المعلمين والإعلاميين على مواجهة التضليل الفكري.
إن معركة الوعي هي معركة بقاء وهوية. من لا يمتلك فيها سلاح الفكر الراسخ سيُهزم حتى وإن امتلك كل أدوات القوة المادية. النصر فيها يُقاس بقدرتنا على حماية العقول من التزييف والقلوب من الانجراف، وغرس وعيٍ أصيل يجعل أبناءنا حصناً للأوطان لا ثغرة فيها.
فلنتكاتف جميعاً — أسرةً ومدرسةً وإعلاماً ومؤسساتٍ ودولةً — لحماية هويتنا الوطنية وصون فكر أجيالنا. فبوعيٍ متينٍ وتعاونٍ صادقٍ سنبني أوطاناً لا تُخترق، وشعوباً لا تُهزم، وأجيالاً تقود المستقبل بعقلٍ مستنيرٍ وقلبٍ مخلصٍ لوطنها.
? إلى شبابنا الأعزاء:
أنتم الجبهة الأولى في هذه المعركة. عقولكم هي سلاح الأمة، ووعيكم هو حصنها. كونوا يقظين، استخدموا التقنية لبناء معرفتكم وتطوير قدراتكم، لا لتشتيت أنفسكم أو تهديد هويتكم. احملوا فكر الوطن في قلوبكم، وفكر المستقبل في أيديكم، وكونوا قادة ضميركم قبل أن تكونوا قادة مجتمعكم.
القاهرة 